سورة الحشر - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحشر)


        


وقولُهُ تعالى: {وَمَا أَفَاء الله على رَسُولِهِ} شروعٌ في بيانِ حالِ ما أُخِذَ من أموالِهِم بعدَ بيانِ ما حلَّ بأنفسِهِم من العذابِ العاجلِ والآجلِ وما فُعلَ بديارِهِم ونخيلِهِم من التخريبِ والقطعِ. أي ما أعادَهُ إليهِ من مالِهِم وفيه إشعارٌ بأنه كان حقيقياً بأن يكونَ له عليهِ الصلاةُ والسلامُ وإنما وقعَ في أيديهِم بغير حقَ فرجعه الله تعالى إلى مستحقِّهِ لأنه تعالى خلقَ الناسَ لعبادَتِهِ وخَلقَ ما خَلقَ ليتوسَّلوا به إلى طاعتِهِ فهو جديرٌ بأنْ يكونَ للمطيعينَ {مِنْهُمْ} أي منْ بني النَّضيرِ {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ} أي فما أجريتُم على تحصيلِهِ وتغنُّمِهِ. من الوجيفِ وهو سرعةُ السيرِ {مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} هي ما يركبُ من الإبلِ خاصَّة كما أن الراكبَ عندهم راكبُهَا لا غيرُ، وأما راكبُ الفرسِ فإنما يسمُّونه فارساً، ولا واحدَ لها من لفظِهَا وإنما الواحدةُ منها راحلةٌ والمعنى ما قطعتُم لها شُقةً بعيدةً ولا لقيتُم مشقةً شديدةً ولا قتالاً شديداً وذلك لأنه كانتْ قُراهم على ميلينِ من المدينةِ فمشَوا إليها مشياً وما كان فيهم راكبٌ إلا النبيُّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ فافتتحهَا صُلحاً من غيرِ أن يجريَ بينهم مسايفةٌ كأنَّهُ قيلَ وما أفاءَ الله على رسولِهِ منهم فما حصلتُموه بكدِّ اليمينِ وعرقِ الجبينِ {ولكن الله يُسَلّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَاء} أي سُنَّتهُ تعالَى جاريةٌ على أنْ يسلطَهُم على مَنْ يشاءُ من أعدائِهِم تسليطاً خاصَّاً وقد سلَّط النبيَّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ على هؤلاءِ تسليطاً غيرَ مُعتادٍ من غيرِ أنْ تقتحموا مضايقَ الخُطُوبِ وتُقَاسُوا شدائِدَ الحروبِ فلا حقَّ لكِم في أموالِهِم {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فيفعلُ ما يشاءُ كما يشاءُ تارةً على الوجوهِ المعهودةِ وأُخْرى على غيرِهَا. وقوله تعالى: {مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى} بيانٌ لمصارفِ الفيءِ بعدَ بيانِ إفاءتِهِ عليهِ عليه الصلاةُ والسلامُ من غيرِ أن يكونَ للمقاتلةِ فيه حقٌّ وإعادةُ عينِ العبارةِ الأُولى لزيادةِ التقريرِ، ووضعُ أهلِ القُرى موضعَ ضميرِهِم للإشعارِ بشمولِ مَا لعقارَاتِهِم أيضاً {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} اختُلفَ في قسمةِ الفيءِ فقيلَ يُسدَّسُ لظاهرِ الآيةِ ويصرفُ سهمُ الله إلى عمارةِ الكعبةِ وسائرِ المساجدِ، وقيلَ يُخَمَّسُ لأن ذكرَ الله للتعظيمِ ويصرفُ الآنَ سهمُ الرسولِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ إلى الإمامِ على قولٍ، وإلى العساكرِ والثغورِ على قولٍ، وإلى مصالحِ المسلمينَ على قولٍ. وقبلِ يُخَمَّسُ خمسةً كالغنيمةِ فإنه عليهِ الصلاةُ والسلامُ كان يُقسِّمُ الخمسَ كذلكَ ويصرفُ الأخماسَ الأربعةَ كما يشاءُ والآنَ على الخلافِ المذكورِ {كَىْ لاَ يَكُونَ} أي الفيءُ الذي حقُّه أن يكونَ للفقراءِ يعيشونَ به {دُولَةً} بضمِّ الدالِ، وقرئ بفتحِهَا وهيَ ما يدولُ للإنسانِ أيْ يدورُ من الغِنى والجِدِّ والغلبةِ.
وقيلِ الدَّولة بالفتحِ من المُلكِ بالضمِّ وبالضمِّ من المِلكِ بكسرِهَا، أو بالضَمِّ في المالِ وبالفتحِ في النصرةِ. أي كيلا يكونَ جِدَّاً {بَيْنَ الأغنياء مِنكُمْ} يتكاثرونَ به أو كيلاَ يكونَ دولةً جاهليةً بينكُمْ؛ فإنَّ الرؤساءَ منهُم كانُوا يستأثرونَ بالغنيمةِ ويقولونَ مَنْ عَزَّ بَزَّ. وقيلَ الدُّولةُ بالضمِّ ما يُتداولُ كالغُرفةِ اسمُ مَا يُغترفُ فالمَعنى كيلا يكونَ الفيْءُ شيئاً يتداولُهُ الأغنياءُ ويتعاورُونَهُ فلا يصيبُ الفقراءَ. والدَّولةُ بالفتحِ بمعنى التداولِ فالمعنَى كيلا يكونَ ذَا تداولٍ بينَهُم أو كيلا يكونَ إمساكُهُ تداولاً بينَهُم لا يخرجونَهُ إلى الفقراءِ. وقرئ: {دولةٌ} بالرفعِ على أنَّ كانَ تامةٌ، أيْ كيلاَ يقعَ دولةٌ على ما فُصِّلَ منَ المعانِي {وَمَا ءاتاكم الرسول} أي ما أعطاكُمُوه من الفيءِ أو منَ الأمرِ {فَخُذُوهُ} فإنه حقُّكم أو فتمسكُوا به فإنه واجبٌ عليكم {وَمَا نهاكم عَنْهُ} عن أخذِهِ أو عنْ تعاطيهِ {فانتهوا} عنْهُ {واتقوا الله} في مخالفَتِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ {أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} فيعاقبُ مَنْ يخالفُ أمرَهُ ونهيَهُ.


{لِلْفُقَرَاء المهاجرين} بدلٌ من لذِي القُربى وما عُطفَ عليهِ فإنَّ الرسولَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ لا يسمَّى فقيراً. ومَن أعطَى الأغنياءَ ذوِي القُربى خصَّ الإِبدالَ بما بعدَهُ وأما تخصيصُ اعتبارِ الفقرِ بفيءِ بني النضيرِ فتعسفٌ ظاهرٌ {الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن ديارهم وأموالهم} حيثُ اضطرهُم كفارُ مكةَ وأحوجُوهُم إلى الخروجِ وكانُوا مائةَ رجلٍ فخرجُوا منها {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ الله وَرِضْوَاناً} من الديار والأموالِ. وقُيِّدَ ذلكَ ثانياً بما يوجبُ تفخيمَ شأنِهِم ويؤكدُهُ {وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ} عطفٌ على يبتغونَ فهيَ حالٌ مقدرةٌ أي ناوينَ لنصرةِ الله تعالى ورسولِهِ، أو مقارِنةٌ فإنَّ خروجَهُم من بين الكفارِ مراغمينَ لهم مهاجرينَ إلى المدينةِ نصرةٌ وأيُّ نصرةٍ {أولئك} الموصوفونَ بما فُصِّلَ من الصفاتِ الحميدةِ {هُمُ الصادقون} الراسخونَ في الصدقِ حيثُ ظهرَ ذلكَ بما فعلُوا ظهوراً بيناً {والذين تَبَوَّءوا الدار والإيمان} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لمدحِ الأنصارِ بخصالٍ حميدةٍ من جُملَتِها محبَّتُهُم للمهاجرينَ ورضاهُم باختصاصِ الفيءِ بهم أحسنَ رِضا وأكملَهُ. ومعنى تبوئِهِم الدارَ أنهم اتخذوا المدينةَ والإيمانَ مَبَاءةً وتمكَّنوا فيهما أشدَّ تمكنٍ، على تنزيلِ الحالِ منزلةَ المكانِ. وقيلَ ضُمِّنَ التبوؤُ معنى اللزومِ. وقيلَ تبوؤُوا الدارَ وأخلَصُوا الإيمانَ كقولِ مَنْ قالَ:
عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بارِداً ***
وقيلَ المَعْنَى تبوؤُا دارَ الهجرةِ ودارَ الإيمانِ، فحُذِفَ المضافُ منَ الثاني، والمضافِ إليهِ منَ الأولِ، وعَوِّضَ منه اللامُ. وقيلَ سَمَّى المدينةَ بالإيمانِ لكونِهَا مظهَرَهُ ومنشأَهُ {مِن قَبْلِهِمُ} أيْ من قبلِ هجرةِ المهاجرينَ على المعانِي الأُوَلِ، ومن قبلِ تبوؤِ المهاجرينَ على الأخيرينِ. ويجوزُ أن يُجعلَ اتخاذُ الإيمانِ مباءةً ولزومُهُ وإخلاصُهُ على المعَانِي الأَوَلِ عبارةً عن إقامةِ كافَّةِ حُقوقِهِ التي من جُمْلَتِهَا إظهارُ عامَّةِ شعائرِه وأحكامِهِ، ولا ريبَ في تقدمِ الأنصارِ في ذلك على المهاجرينَ لظهورِ عجزِهِم عن إظهارِ بعضِهَا لا عَنْ إخلاصِهِ قلباً واعتقاداً إذْ لا يُتصور تقدُّمهم عليهِمْ في ذلكَ.
{يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} خبرٌ للموصولِ أي يحبونَهُم من حيثُ مهاجَرَتُهُم إليهم لمحبتِهِم الإيمانَ {وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ} أي في نفوسِهِم {حَاجَةً} أي شيئاً محتاجاً إليه يقالُ خُذْ منْهُ حاجتَكَ أي ما تحتاجُ إليهِ، وقيلَ إثر حاجةٍ كالطلبِ والحزازةِ والحسدِ والغيظِ {مّمَّا أُوتُواْ} أي ما أُوتِيَ المهاجرونَ منَ الفيءِ وغيرَهِ {وَيُؤْثِرُونَ} أي يقدمونَ المهاجرينَ {عَلَى أَنفُسِهِمْ} في كلِّ شيءٍ من أسبابِ المعاشِ حتى إنَّ من كانَ عندهُ امرأتانِ كان ينزلُ عن إحداهُمَا ويزوجها واحداً منهُم {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أيْ حاجةٌ وخَلَّةٌ. وأصلُهَا خَصَاصُ البيتِ وهي فُرجَهُ والجملةُ في حيزِ الحالِ، وقدْ عرفتَ وجهَهُ مراراً. وكان النبيُّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ قسَّم أموالَ بني النضيرِ على المهاجرين ولم يُعطِ الأنصارَ إلا ثلاثةً نفرٍ محتاجينَ أبا دُجَانَةَ سماكَ بنَ خَرَشَةَ وسهلَ بنَ حُنيفٍ والحارثَ بنَ الصِّمَّةِ، وقالَ لهم إنْ شئتُمْ قسمتُم للمهاجرينَ من أموالِكُم وديارِكُم وشاركتُمُوهُم في هذه الغنيمةِ وإن شئتُم كانتْ لكُم ديارُكُم وأموالُكُم، ولم يُقسم لكم شيءٌ من الغنيمةِ فقالِ الأنصارُ بلْ نقسمُ لهم من أموالِنَا وديارِنَا ونؤثرهُم بالغنيمةِ ولا نشاركهُم فيهَا فنزلتْ وهذا صريحٌ في أنَّ قولَهُ تعالَى والذينَ تبوؤُا إلخ مستأنفٌ غيرُ معطوفٍ على الفقراءِ أو المهاجرينَ نعم يجوزُ عطفُهُ على أولئكَ فإنَّ ذلكَ إنما يستدْعِي شركةَ الأنصارِ للمهاجرينَ في الصدقِ دونَ الفيءِ فيكونُ قولُهُ تعالى يحبونَ وما عُطفَ عليهِ استئنافاً مقرراً لصدقِهِم أو حالاً من ضميرِ تبوؤُا {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} الشُّح بالضمِّ والكسرِ وقدْ قرئ بهِ أيضاً: اللؤمُ.
وإضافتُهُ إلى النفسِ لأنَّه غريزةٌ فيها مقتضيةٌ للحرصِ على المنعِ الذي هو البخلُ أي ومن يُوقَ بتوفيقِ الله تعالى شُحَّها حتى يخالفَهَا فيما يغلبُ عليها من حُبِّ المالِ وبغضِ الإنفاقِ {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى مَنْ باعتبارِ معناها العامِّ المنتظمِ للمذكورينَ انتظاماً أولياً {هُمُ المفلحون} الفائزونَ بكلِّ مطلوبٍ الناجونَ عن كلِّ مكروهٍ. والجملةُ اعتراضٌ واردٌ لمدحِ الأنصارِ والثناءِ عليهم وقرئ: {يُوَقَّ} بالتشديدِ.


{والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ} هم الذينَ هاجرُوا بعد ما قَوِيَ الإسلامُ أو التابعونَ بإحسانٍ وهم المؤمنونَ بعد الفريقينِ إلى يومِ القيامةِ ولذلك قيلَ إن الآيةَ قد استوعبتْ جميعَ المؤمنينَ، وأياً ما كان فالموصولُ مبتدأٌ خبرُهُ {يَقُولُونَ} إلخ والجملةُ مسوقةٌ لمدحِهِم بمحبَّتِهِم لمنْ تقدَمَهُم من المؤمنينَ ومراعاتِهِم لحقوقِ الأخوةِ في الدينِ والسبقِ بالإيمانِ كما أنَّ ما عُطفتْ عليه من الجملةِ السابقةِ لمدحِ الأنصارِ، أيْ يدعونَ لهم {رَبَّنَا اغفر لَنَا ولإخواننا} أيْ في الدينِ الذي هو أعزُّ وأشرفُ عندهُم من النسبِ {الذين سَبَقُونَا بالإيمان} وصفُوهُم بذلكَ اعترافاً بفضلِهِم {وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ} وقرئ: {غِمْراً} وهُمَا الحقدُ {لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} على الإطلاقِ {رَبَّنَا إِنَّكَ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ} أي مُبالغٌ في الرأفةِ والرحمةِ، فحقيقٌ بأنْ تجيبَ دُعاءَنَا.

1 | 2 | 3 | 4